تشبه التقارير الواردة من العراق التي تستبعد إمكانية قيام إيران بتزويد الفصائل العراقية المختلفة بالأسلحة، استبعاد رؤية أعضاء من المافيا في الأماكن الليلية بلاس فيجاس. فقد دأبت إيران على التدخل في شؤون جيرانها لفترة طويلة دون أن تنحصر في العراق، حيث أقدمت طهران على تدريب الميلشيات المسلحة في لبنان وفلسطين، رغم بُعد هذين البلدين عن الأراضي الإيرانية.
وبالاستناد إلى هذا التاريخ الإيراني الحافل بدعم الأطراف الخارجية علينا ألا نستغرب كثيراً ما كشف عنه الجيش الأميركي مؤخراً من وجود قنابل خارقة للدروع، وأسلحة أخرى، تعود إلى إيران وتقوم بنقلها إلى أطراف عراقية. غير أن العثور على أسلحة إيرانية في أيادٍ عراقية، كما أعلن ذلك الرئيس بوش والجنرال بيتراوس، رئيس مجلس هيئة الأركان الأميركية في الأسبوع الماضي، لا يثبت في شيء إصدار النظام في طهران أوامره إلى الجماعات المسلحة في العراق باستهداف القوات الأميركية. وعلى رغم صعوبة تبرئة ساحة إيران نهائياً من إمكانية إصدار مثل تلك الأوامر للميلشيات العراقية بالنظر إلى تاريخها في مجال الانتشار النووي ودعمها للراديكالية بصفة عامة، فإنه لا يمكن فهم نوايا إيران الحقيقية دون تقييم استراتيجيتها في العراق التي تتخطى رغبة إيران في إضعاف السياسة الأميركية.
فحسب الفهم الإيراني للوضع الجيوسياسي، يدرك قادة النظام أنهم سيحتاجون إلى وكلاء لهم في العراق إذا ما قررت الولايات المتحدة مغادرة العراق. لكن إذا كانت إيران ستواجه العديد من التحديات في حال عودة الجنود الأميركيين إلى أرض الوطن، فلماذا إذن تسعى إلى تسليح الفصائل العراقية، وربما تشرف على هجمات مباشرة ضد القوات الأميركية؟ ينظر معظم الإيرانيين للعراق على أنه قضية ذات شجون، فهم يشاهدون المعاناة اليومية للعراقيين سواء على يد الاحتلال الأميركي، أو الهجمات الانتحارية التي ينفذها السُّنة ولا يخفون تعاطفهم مع المواطنين العراقيين الذين تربطهم بهم صلات دينية ضاربة بجذورها في التاريخ المشترك للبلدين. ورغم ابتهاج الإيرانيين لسقوط نظام صدام حسين الذي عانت إيران على يده الأمرَّين طيلة فترة الحرب العراقية الإيرانية التي أوقعت خسائر فادحة في الأرواح لدى الجانب الإيراني، فإن الولايات المتحدة تعتبر في نظرهم المسؤول الأول عن العنف الذي يجتاح العراق في هذه اللحظة.
ولا ننسى أيضاً أن إيران كانت على الدوام تتوجس من أميركا ونواياها الحقيقية في المنطقة. فمنذ الثورة الإسلامية في 1979، ومناهضة أميركا بمثابة الحجر الأساس الذي تدور حوله السياسة الخارجية الإيرانية. وهذا التخوف ألهبته الولايات المتحدة أكثر بانحيازها إلى العراق في حربه مع إيران، بحيث قطعت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين منذ 1979 ودخلا في مواجهات متفرقة طيلة الفترة السابقة. وفي العقد الذي سبق هجمات 11 سبتمبر، قامت إيران بتنظيم جيشها وإعادة هيكلته بما يسمح لها بمواجهة القوات الأميركية، حتى عندما كان وجود تلك القوات في منطقة الخليج محصوراً في دول شبه الجزيرة العربية. لكن بعد وقوع هجمات 11 سبتمبر أحست إيران بأنها محاصرة ويشتد عليها الخناق بعدما دفعت الولايات المتحدة بحوالى 100 ألف جندي إلى العراق، وقامت بتعزيز تواجدها في آسيا الوسطى، ثم أرسلت جنودها إلى أفغانستان، وعمقت علاقاتها العسكرية مع باكستان.
والأكثر من ذلك كررت الولايات المتحدة الأميركية تهديداتها للنظام الإيراني، ورفضت تسليم الإيرانيين المناوئين للنظام الموجودين في العراق، كما قامت بتكثيف الضغوط الاقتصادية على إيران، وتزعمت الجهود الدبلوماسية العالمية لمنع ذلك البلد من الحصول على التكنولوجيا النووية، وأخيراً جاء تأكيدها على عدم استبعاد الخيار العسكري في التعامل مع إيران بعد إرسال واشنطن لحاملات الطائرات إلى مياه الخليج، وهي أمور ساهمت كلها في تعزيز المخاوف الإيرانية إزاء أميركا. لذا تسعى إيران قدر المستطاع إلى تقويض المشروع الأميركي القائم على نشوء عراق علماني مساند للغرب، كما أنها تريد ضمان اختفاء العقيدة الأميركية المرتكزة على تغيير النظم. وإلى غاية هذه اللحظة يبدو أن الأمور تسير في العراق لصالح إيران بعدما أصبحت الطرف الوحيد الرابح من الحرب الحالية. فالعراق لن يتمكن من تهديد إيران لسنوات، إن لم يكن لعقود قادمة، كما أن المسلسل الديمقراطي الذي حرصت أميركا على تثبيته في العراق لم يسفر سوى عن صعود الزعماء الشيعة إلى السلطة، وهم أكثر تعاطفاً مع طهران منهم مع واشنطن.
وعلى رغم تراجع مخاوف إيران نسبياً مقارنة مع 2003 بعدما تأكدت استفادتها من مجريات الأمور في العراق وبأنها تسير لصالحها، فإن القلق الإيراني لم يختفِ تماماً. فاستمرار تواجد القوات الأميركية في العراق على المدى البعيد، ثم مستقبل النظام الشيعي في بغداد يظلان ضمن أسئلة أخرى ما زالت مفتوحة على كل الاحتمالات. وتظهر الصعوبة خصوصاً في حال عدم استمرار العراق لفترة أطول وتدفق أعداد كبيرة من اللاجئين العراقيين إلى إيران كما حصل خلال الحرب العراقية- الإيرانية، وهو ما يمكن أن يغذي الاضطرابات في الأوساط العربية والكردية داخل إيران. وبإدراكها قرب انسحاب القوات الأميركية إن عاجلاً، أم آجلاً تسعى إيران إلى خلق الظروف المناسبة لبسط نفوذها في العراق وتسلمه بعد خروج الأميركيين. وإذا كانت الولايات المتحدة تركز على مسألة تمويل إيران لوكلائها في العراق وما لذلك من تأثير سيئ على المصالح الأميركية، فإن ذلك بالكاد يشكل أولوية لإيران. فهي تسعى قبل كل شيء إلى تدعيم وجودها في العراق بعد مغادرة القوات الأميركية من خلال تمتين علاقاتها مع الميلشيات الشيعية التي تمدها بالسلاح مقابل الحصول على ولائها غداً. والأهم من ذلك قدرة تلك الميلشيات على دحر خصومها في عراق المستقبل والبقاء في السلطة.
ولعل المثال اللبناني يوضح هذا الهدف، بحيث قامت إيران بإنشاء "حزب الله" ومكنته من الوسائل اللازمة للتغلب على خصومه من الجماعات الشيعية المنافسة ليبرز في الأخير كقوة سياسية على الساحة اللبنانية. وفي ظل صعود رئيس متشدد إلى السلطة في إيران لا يتردد في إظهار مناهضته لأميركا وإعلان رغبته في إخفاق المشروع الأميركي في العراق، فإنه ليس من الغريب أن يعمد النظام إلى تزويد الميلشيات الشيعية بالسلاح والمتفجرات لضرب القوات الأميركية. وعلى رغم اختلاق النخبة الإيرانية حول تفاصيل العلاقة مع الولايات المتحدة ووجود أصوات أقل تشدداً، فإنها تتفق جميعاً على ضرورة إبعاد خطر تغيير النظام، وذلك من خلال إنهاك أميركا في العراق. بيد أن إيران التي تسعى إلى استهداف الأميركيين قد تظهر في أعين الكثيرين على أنها تعتدي على العراقيين أنفسهم. فرغم الهجمات التي تشنها الميلشيات الشيعية على القوات الأميركية، فإنها توجه في الأساس ضد القوى السُّنية المختلفة في البلاد، وهو ما قد يستنفر باقي الشرائح العراقية ضدها. فإيران كانت تسعى على الدوام إلى استمالة باقي الأطراف العراقية من غير الشيعة، لاسيما الأكراد الذين يعتبرون اليوم من أقوى العناصر في العراق وأكثرها تنظيماً.