الشايب العايب

أستميح القارئ الكريم عذراً في ما لو أوردت في هذه المقالة بعض الكلمات والتعبيرات الشعبية الخليجية، حيث أن سرد هذه الحادثة التي سوف أرويها لا تستقيم وتؤدي غرضها إلاّ بهذه الصيغة.
والحكاية وما فيها، أن هناك من أتاني يشكو لي رجلاً أقرضه مبلغاً من المال وأخذ يماطله ويسوّف في رده عدّة سنوات.. وبما أنني صاحب (فزعة) في أي أمر أو حل إشكال ـ على شرط أن يكون ذلك بعيداً عن جيبي ـ، لأنني أعلق في صدر مجلسي الحكمة القائلة: (عضّ قلبي، ولا تعضّ رغيفي).. المهم أنني استمعت إلى (ورطة) ذلك المغفل الذي ساعد وديّن ذلك الرجل، فطمأنته ووعدته أنني سوف أذهب إليه (متوسطاً) في حل ذلك الإشكال، خصوصاً أنني أعرف ذلك الرجل، حيث انه كان صديقاً لوالدي يرحمه الله.. ولكي تتوضح لكم الصورة، فذلك الرجل تجاوز التسعين من عمره، غير أنه ما زال محتفظاً بلياقته الصحية والذهنية والعاطفية كذلك، ومعروف عنه البخل الشديد وحب النزاعات مع الآخرين.
توكلت على الله وطرقت بابه، وأدخلوني عليه، وإذا به مستند إلى (المركى)، والمسجل يصدح بشريط كاسيت (لمشعان مجول) وهو يغني ويعزف على الربابة، فتفاءلت خيراً، لأنني تيقّنت أو اعتقدت أن الشيخ في أحسن حالاته، وأن نفسيته لا بأس بها.
سلّمت عليه وقبّلت رأسه وهو جالس، فما كان منه إلاّ أن أغلق المسجل ورحب بي، ثم أخذ ينادي حفيده لإحضار القهوة والتمر، وفعلاً احضرهما، وعندما تناولت حبة تمر وإذا بها (مسوّسة)، فتركتها وتناولت ثانية وإذا بها مثل الأولى، فعافت نفسي التمر، فتركته، فحلف وأقسم بالطلاق أن آكل، وكدت أن أطيعه غير أنني عندما تذكرت أن زوجاته كلهن اتكلن على الله رفضت ذلك، فقال لي: يا رجل (اصطبح) ـ ومعنى اصطبح أي افطر أو تناول القهوة ـ وهذه الكلمة تسلسلت من عهد عرب الجاهلية إلى بادية اليوم ـ وكان عرب الجاهلية يصطبحون بالخمر، مثلما قال شاعرهم:
ألا هبّي بصحنك فاصبحينا/ ولا تبقي خمور الأندرينا. وقد استبدل بدو اليوم الخمرة بالقهوة، رغم أن القهوة نفسها هي من مسميات الخمر، وأكثر أربع كلمات لها مترادفات عند العرب هي: السيف والأسد والخمرة والمرأة.
المهم أنني دخلت في الموضوع، وطلبت من الشيخ أن يسدد ما عليه من دَين، خصوصاً أنه قد بلغ هذا الحد من العمر، فاعتدل في جلسته وقال لي: اسمع، هناك احتمال أنني سوف أموت قريباً، وقل لصاحبك إنني إذا دخلت النار، فإن كان هو ولد أبوه يجيني (ليتشعوط معي)، أما لو أن الله أكرمني ودخلت الجنة فبشّره أنني سوف أغرقه بدنانير الذهب والفضة التي سوف أحوشها له من أودية الجنة، وأملأ بها جيوبه..
وعندما سمعت كلماته تلك أصبت بإحباط وعرفت أنه (مافيش فايدة)، فلم أملك إلاّ أن أقول له: صحيح إنك شايب وعايب، ووقفت خارجاً، فلم يودعني وإنما ضغط على مفتاح المسجل ورفع الصوت إلى أعلى درجة، ولم أسمع غير مشعان مجول يردد:
غديت مثل اللي بمسراه منجوم / في معاليق الفواد مخطوفه
على الذي جاني منه رد وعلوم / شره عليّ اللي جميل وصوفه
هافي الحشا كنه عن الزاد محروم / والثوب يشكي ما نبا من ردوفه.