اتصلت باستعلامات التليفونات، وأخذت منهم رقم مكتب معين للاستشارات القانونية. وعندما اتصلت بذلك المكتب رد عليّ أحد الموظفين قائلاً: إن هذا ليس هو المكتب الذي تريد وأعطاني رقما آخر. وعندما اتصلت مرة ثانية، كان الرد مثل الأول، وأعطوني رقما جديدا. وتكرر اتصالي للمرة الثالثة، وكان الجواب هو نفسه إلى درجة أنني شككت أن هناك (لعبة تلعب عليّ)، فكيف تتقاذفني تلك المكاتب من (يد نشيط إلى يد نشيط)؟!
إنها فعلاً حالة مستغربة، وخطر على بالي أن أترك تلك الاستشارة، غير أنني عندما تذكرت ما أنا عليه من كرب وسوء مصير، ولن يفتح بوجهي باب الأمل إلاّ رجل قانوني حصيف، يرشدني إلى طريق الهداية، ويدلني على ما هو أقوَم، وقبل ذلك كله يستطيع أن يبرئني أو في الأقل يخفف من الغرامات المالية الملقاة على عاتقي، حتى لو كان ذلك بطريقة افعوانية (ملتوية) ـ ما عندي مانع ـ .
عندما وصلت إلى هذا المنعطف الحاد، اتصلت للمرة الرابعة بآخر رقم أخذته من آخر مكتب، عندها ردت عليّ سيدة، توقعت أن عمرها ما بين الثلاثين والأربعين سنة، وذلك من نبرات صوتها. كانت تحدثني وهي (تمضغ لُبَاناً)، فتوقعت أنها سكرتيرة المحامي، وأنها على شيء لا بأس به من (المياصة).. وكدت أسألها عن مواصفاتها الشخصية: هل هي بيضاء أم سمراء، طويلة أم قصيرة، بدينة أم هزيلة، متزوجة أم عزباء أم أرملة، وهل تحسن الطبخ أم الرقص أكثر؟!
كل تلك التساؤلات تقاطرت على نافوخي دفعة واحدة خلال ثوانٍ، غير أنني عندما تذكرت مشكلتي المستعصية ازحتها كلها من وجهي، وخاطبت تلك السكرتيرة متظاهراً بالفهم والكياسة والخلق الرفيع.
وسألتني عن مشكلتي وهي ما زالت (تعلك)، وخطر على بالي أن أقول لها: أرجوك ارمي العلكة من فمك وأنت تحدثيني لكي افهم واستوعب كلامك، ولكني (استحيت)، وخفت أن تغلق السماعة بوجهي وهي آخر أمل أتشبث به في هذا اليوم الاغبر.
أخذت احكي لها عن مشكلتي و(أفضفض)، والغريب أنها سألتني عن عائلتي، وأسراري الشخصية، ومن عبطي كشفت لها كل أوراقي التي من الممكن أن (توديني في داهية). وكلما (غلب حماري) وتوقفت عن الكلام استحثتني هي أكثر قائلة: ايوه وبعدين؟!، وعندما أقول لها: (ولا قبلين)، تمطرني بأسئلة جديدة وغير متوقعة، (وأدبك) أنا بالأجوبة عليها وكأنني في حصة اختبار شفهي في مدرستي الثانوية قبل (ثلاثة قرون) من الآن. مضى عليها وهي تناقشني وتعلك (قطعة الربر) التي بين أسنانها، أكثر من ساعة كاملة إلى أن تصمخت أذني، عندها فقط تذكرت وسألتها بكل غباء عن سعادة المحامي هل هو موجود؟!، أريد لو سمحت أن آخذ موعدا معه.. فسألتني هي بدورها بكل تعجب، بل وكل (دلع) واضح: مين المحامي الذي تسأل عنه؟! إنني لا أعرف محامين.
عندها اسقط في يدي وعرفت أنني وقعت بين (براثن لبؤة) ولم يسم عليّ احد، فأغلقت لا شعوريا سماعة التليفون في وجهها، والمشكلة التي ما زلت (الطم) بسببها إنني فوق حكايتي لها عن قضيتي، بحت لها بكامل أسراري، بل وذكرت لها اسمي الثلاثي وأعطيتها عنواني ورقم تليفوني، واكبر دلالة إنني حالما أغلقت الخط، وإذا بالتليفون يرن، وما أن وضعت السماعة على أذني إلا وأنا اسمع (طرقعة العلكة).