كنت أظن أن النساء هن أكثر نحيباً وبكاءً عندما يموت لهن عزيز، وهن بذلك يختلفن عن الرجال الذين مهما خيم الحزن والوجوم على وجوههم يستطيعون أن يتحكموا بعواطفهم ويكبتوا إلى حد ما مشاعرهم، لان ذلك يكاد أن يكون أمراً طبيعياً لما هن عليه اغلب النساء من الانفتاح للتعبير عن مشاعرهن، أقول إنني كنت أظن ذلك قبل أن اذهب لتعزية رجل في قريب له، لأنني حينما كنت في الشارع وقبل أن اعتب درجة الباب الخارجي لمنزله تناهى إلى سمعي صوت عويله وصراخه، وفكرت أن أعود أدراجي وارجع في يوم الغد بعد أن تهدأ الأمور قليلاً، لأنني لا أطيق سماع العويل من أي إنسان وأقف حيال ذلك صامتاً واجماً لا ادري كيف أتصرف، ولا ادري ماذا أقول، ولكنني للأسف دخلت فعلاً ويا ليتني رجعت.
أول ما دخلت وإذا بالصالة التي امتلأت بالمعزّين تضطرب وتمور بالرجال، وكان في وسطهم الرجل الذي أتيت لتعزيته، كان ما شاء الله طولا وعرضا، سقط ما على رأسه من لباس، وتفتحت أو تقطعت ازارير ثوبه وكأنه في معركة من شدة مداحمة الصدور والأيدي من الرجال الذين يحاولون تهدئته , وهو يتفلت منهم متخبطاً بيديه وقدميه وكأنه ليس في معركة فقط ولكن في حلبة مصارعة.. ووقفت مبتعداً ومستنداً على الجدار بقدر ما أستطيع، غير إنني لم اسلم من الرص والدفش في كل دقيقة، حيث أن حلقة الرجال الأشداء تدور وتلف بالصالة، فيما كان الرجل المكلوم المتعافي، يجعر بصوت غليظ عال يكاد أن يخترق طبلة (اجعص) أذن، والادهى والأمر أن جدران الصالة كانت تردد صياحه الذي ذكرني بغناء المطرب الاوبرالي (بافارّوتي)، فأسقط في يدي ولم اعد ادري كيف اخرج من هذه الحلبة أو هذا المأزق أو هذه الورطة؟!
الكل يمسك به، والكل يقول له: اذكر الله، لا اله إلاً الله، الحمد لله، الله اكبر، وهو في هذا الخضم لا يتعب ولا يفتر ولا يتوقف عن البكاء والصياح، والنط من أعلى إلى أسفل، ثم من أسفل إلى أعلى، وهكذا دواليك.
الكراسي تبعثرت، وبعضها تحطم، حتى من أتى ليصب القهوة سقط هو وقهوته وفناجينه التي «تدشدشت» على الأرضية الرخامية التي أصبحت زلقة من كثرة العرق الذي تساقط عليها، وكانت ممتلئة بالأحذية والنعال التي تطايرت.
الواقع أن ذلك كان منظراً عجيباً أشاهده لأول مرة في حياتي، ولم يكن يخطر على بالي قط، ولم أكن ادري أن الحزن في أي إنسان قد يصل إلى هذه الدرجة العملية العنيفة، بل والوحشية.
انكم مهما أوتيتم من الخيال لن تتصوروا واقع تلك (الحلبة) وما كان يدور فيها، ولكي ادلل لكم على (درامية) وصعوبة ذلك الواقع، فأقول إنه بالرغم من تصميمي بعد دقيقتين على الهروب من ذلك المكان، لم يتسن لي أن أنعتق واخرج إلاّ بعد نصف ساعة، حيث أن الأبواب قد أوصدت بأجساد المتزاحمين المتراصين الذين يحاولون أن يهدئوا أو يمسكوا بذلك الفحل الهائج الحزين، من دون جدوى.
وما كدت اخرج وأنا (أتشهد)، حتى انطلقت في الشارع ارثع، نسيت مكان سيارتي، ورحت أتحسس ثيابي التي (تكرمشت) وتلطخت بعرق الرجال المتحمسين، وأكتافي بدأت تؤلمني من كثرة ما نالته من الضغط والدبج.
كلنا نحزن ونبكي، وقد تتفطر قلوبنا الما على من نفقدهم، ولكن ليس بهذا الشكل الجنوني، هل تصدقون إنني لم اذهب لتعزيته لا في اليوم الثاني ولا الثالث من شدة الرعب.
ولكي لا يزداد عجبكم، فالمتوفية هي زوجته (!)