المستقبل - 2007 / 4 / 17
نصير الأسعد
على مدى الأيام الماضية، وتحديداً منذ أن أعلن السيّد حسن نصرالله تمديد الأزمة اللبنانية فترة مفتوحة زمنياً، يقوم الخطاب السياسي ـ والإعلامي ـ لـ"حزب الله" على اختلاق تناقضات داخل فريق 14 آذار، بين رئيس "تيار المستقبل" سعد الحريري من جهة وبين رئيس "اللقاء الديموقراطي" وليد جنبلاط ورئيس الهيئة التنفيذية في "القوات اللبنانية" سمير جعجع من جهة أخرى، ليمرّ على إختلاق تناقض بين الحريري ورئيس مجلس الوزراء فؤاد السنيورة أيضاً.
الخوف من "الاحتكاك" السنّي ـ الشيعي
طبعاً، ليس هذا الخطاب جديداً، لأنّ "اللعبة" في حدّ ذاتها قديمة.
بيد أنّ تجديد اللجوء إليه يتم في ظرف سياسي محدّد لا بدّ من تسليط الضوء على معطياته وأبعاده.
يتجدّد إعتماد "حزب الله" لهذا الخطاب السياسي ـ الإعلامي أولاً، في "لحظة" فشل المشروع الذي يقوده الحزب منذ بضعة شهور، وفي "لحظة" إضطراره إلى الاعتراف بهذا الفشل، وهو الاعتراف الذي عبّر عنه نصرالله بالقول أنّ الوضع "مسكّر" وانّ البديل هو مزيد من "الانتظاريّة".
على انّ تجديد إعتماد الخطاب المشار إليه يعكسُ ثانياً "الخوف" الشديد من تجدّد "الاحتكاك" الشيعي ـ السنّي، الذي شكّل حدوثه في شهر كانون الثاني الماضي العامل الرئيسي في سقوط المشروع "الانقلابي". وبهذا المعنى، فإنّ "التحييد" الظاهري لزعيم "المستقبل" في خطاب "المعركة المستمرّة" ليس مقصوداً به "الانفتاح" على "تيار المستقبل" بل رسم خارطة وهميّة للقوى في إطار 14 آذار.
التحالف السنّي ـ الدرزي ـ الماروني
والأهم هو انّ تجديد اللجوء إلى هذا الخطاب، انّما يعكس ثالثاً "الخوف" مِن التحالف الثلاثي السنّي ـ الدرزي ـ الماروني الذي تؤطره حركة 14 آذار. ذلك انّ تماسك هذا التحالف شكّل ما يمكن تسميتُه "السدّ" الذي اصطدم به مشروع "حزب الله" وأجبره على التراجع.
ولـ"الخوف" من "السدّ الثلاثي" أسباب كثيرة. غير أنّ ثمّة سبباً رئيسياً ينبغي ألا يغيب عن الأذهان. فمن الطبيعي أن يؤدي استمرار تماسك هذا "السدّ" ـ أي استمرار فشل مشروع "حزب الله" تالياً ـ إلى تساؤلات كثيرة في المديَين المتوسط والبعيد، داخل البيئة الشيعية نفسها. ذلك أنّ هذه البيئة الموعودة بـ"انتصار" سريع تارة وبـ"انتصار" مؤجل تارة أخرى، والمستنفرة من جانب الحزب بشكل خاص، على أساس أنّ الفريق الآخر ـ أي 14 آذار ـ يفكّ شراكته مع الطائفة الشيعية، ستكتشف في أمد منظور أنّ كلّ هذه "التعبئة" لا أصل لها، وأنّ المسألة "سياسية" وليست "شيعية".
"السدّ الثلاثي" وأثره شيعياً.. وفشل "تعددية المعارضة"
كذلك، فإنّ ثمّة سبباً رئيسياً آخر موازياً لهذا "الخوف" من "السدّ" الثلاثي. فممّا لا شكّ فيه أنّ "التفاخر" الذي أقدم "حزب الله" عليه في فترة من الفترات بأنّ "المعارضة" التي يقود إنما هي معارضة تعدّدية طائفياً وسياسياً، لم يعُد له ـ "التفاخر" ـ أساس.
فبعد "إنفراط" وضع الجنرال وتيّاره داخل البيئة المسيحية، أصيب حلفاء "حزب الله" من المسيحيين "الآخرين" ومن السنّة بعاصفة عاتية. وليس خافياً في هذا المجال، انّ "مسيحيي النظام السوري وسنّته" انتعشوا خلال فترة من الزمن من التغطية المسيحية التي قدّمها الجنرال لمشروع "حزب الله"، والتي بنى الحزب عليها مقولة "المعارضة المتعدّدة". وليس خافياً أيضاً انّ "مسيحيي المعارضة" يكشفهم الواقع الحالي لـ"الحالة العونية"، وانّ "سنّة المعارضة" كانوا بحاجة إلى التغطية العونية "المسيحية" كي لا يبدو انّهم يقيمون تحالفاً سنّياً بحتاً مع طرفَي التمثيل السياسي للشيعة.
ويمكن القول إذاً، انّ خطاب "حزب الله" المتجدّد، بقدر ما يعكس خوفاً من "السدّ" الثلاثي انمّا يعكسُ حقيقة أنّ الأمور عادت إلى "المربّع الأول"، أي أنّ "حزب الله" يصارع الآن بـ"اللحم الحيّ".. من دون "زوائد" فعلية.
الابتزاز
هذا في ما وراء تجديد الحزب لـ"لعبة" اختلاق تناقضات لا أصل لها في صفوف 14 آذار.
غير انّ "حزب الله" في هجومه على جنبلاط وجعجع، واتهامهما بالسعي إلى "الحرب الأهلية"، لا يخفي حقيقة أنّه يمارسُ ابتزازاً مكشوفاً بـ"الحرب الأهلية".
فإذا كانت الحرب الأهلية "الحديثة" لا يمكن أن تحصل إلا إذا كانت سنّية ـ شيعية هذه المرة، وإذا كان واضحاً أنّ الطرف السنّي "الأفعل" أي سعد الحريري لا يريدها وأنّ "حزب الله" يخاف منها ويقول إنّه لا يريدها، فإنّ الحديث من جانب الحزب عن "مشروع حرب أهلية" لدى جنبلاط وجعجع، يدخل في خانة "التوتير" مِن قبل "حزب الله".. وربّما في خانة البحث عن "حروب بديلة" أو "مناوشات" بديلة.
محاولة استفزازية لإسقاط الدولة
وإذا رُبطت الأمور ببعضها، أي إذا ما رُبطت "أجزاء" الخطاب السياسي ـ الإعلامي الحزب اللّهي بعضها ببعض، بين مقاربته التي باتت معروفة لمسألة الدولة من ناحية واتهامه "الاشتراكي" و"القوات" بالتخطيط لحرب أهلية من ناحية ثانية، يتّضح انّ هدف "حزب الله" هو فرط الدولة "الرسمية" لتبرير وجود دولته واستمرارها، وللدفع باتجاه التفاوض "على" الدولة في مرحلة لاحقة، عبر إسقاط مرجعيات الدولة في اتفاق الطائف. وبكلام آخر، يسعى "حزب الله" إلى دفع "الاشتراكي" و"القوات" إلى الخروج من الدولة وعليها، وإلى التوجّه نحو إعتبار انّ حمايتهما لا توفّرها الدولة.
يتعزّز هذا الاعتقاد ـ الاستنتاج مِن مجموعة وقائع ومعطيات في منطقة الجبل كشف وليد جنبلاط عنها تباعاً، من شراء العقارات إلى التسلّح والتدريب، مروراً بتكليف أدوات للنظام المخابراتي السوري افتعال مشاكل متنقّلة في هذه المنطقة الدرزية ـ المسيحية بشكل خاص.
ردّ جنبلاط وجعجع
كان "حزب الله" ينتظر أو يتوقّع أن تثير هذه الخطوات غريزة "الدفاع الذاتي" عن الوجود، فيبدأ التسلّح الحزبي والتشكّل القتالي الحزبي.
غير أنّ "علقة" الحزب هذه المرة كانت أنّ ما توقّعه لم يحصل. وفي مخاطرة أمنية استثنائية جال وليد جنبلاط أول من أمس على العديد من القرى والبلدات ليطلب من مناصريه "عدم الحماسة" وعدم الوقوع في الفخّ، وليؤكد أنّ "الدولة هي حمايتنا". والمغزى هنا هو أنّ ما حصل في الحرب الأهلية السابقة لن يحصل اليوم، وأنّه مهما حصل لن يقرّر أي طرف في 14 آذار "أخذ الأمور بيديه". وهذا ما أكده سمير جعجع بدوره أكثر من مرّة.
إذاً، يتحوّل إبتزاز "حزب الله" للبلد بحرب أهلية يخطّط لها فرقاء رئيسيون في 14 آذار كما يزعُم، إلى إبتزاز ضدّه بمعنى من المعاني، أي أنّ إسقاط مشروع الدولة بالتهويل يواجَه بتمسّك بالدولة.
بري يسرّح المجلس
وماذا عن الطرف الآخر في الثنائية السياسية الشيعية؟
في وقت لم يتّخذ الخطاب السياسي ـ الإعلامي لحركة "أمل" المضمون نفسه وإن اقترب منه، من الواضح أنّ الرئيس نبيه بري أقدم على الاستقالة العملية من دوره كرئيس لمجلس النواب. وآخر "الإبداعات" في هذا المجال، قيامُه بتكليف أحد نواب كتلته الإعلان عن موعد جلسة إنتخاب رئيس الجمهورية في الخامس والعشرين من أيلول المقبل على قاعدة نصاب الثلثين.
ليس في هذا الإعلان من جانب أحد أعضاء كتلة بري إعلاناً فقط عن تسريح المجلس النيابي لفترة تزيد عن خمسة أشهر، أو إعلاناً عن الاستمرار في إقفال المجلس من الآن وحتى الاستحقاق الرئاسي على الأقل فحسب، لأنّ في ما قاله النائب "التنمويّ والتحريريّ" ما يفيد أنّ المجلس لن ينعقد فعلياً إلا بنصاب الثلثين.. ولانتخاب الرئيس بهذا الشرط.
ويعطي نفسه صلاحية ليست له
مِن المتعارف عليه أن ليس من صلاحية رئيس المجلس تفسير الدستور وليس من صلاحيته "إبرام" تفسيره، لأنّ الأمر يعود إلى الهيئة العامة لمجلس النواب. فمن واجب رئيس المجلس أن يطلب مجموعة من المطالعات الدستورية وأن يُطلع مكتب المجلس عليها، وأن يدعو الهيئة العامة إلى التصويت على التفسير الذي ترى اعتماده.
ومع ذلك، فإنّ آثار استقالة بري من دوره لا تقف عندَ هذا الحدود.
ذلك انّ المعنى العميق لتسريح المجلس وإبعاده عن دوره في التعاطي المسؤول مع الأزمة السياسية ـ الوطنية، ليس فقط تعطيل المؤسسة الدستورية الأولى في الدولة والنظام السياسي، بل هو ـ أي المعنى ـ ترك الوضع اللبناني مكشوفاً لفترة طويلة على الوضع الخارجي وما ينطوي عليه من تطورات سلبية محتملة.
وبكلام آخر، فإنّ "سياسة" بري في وجوهها المعلنة تستكمل "سياسة" الحزب من زاويتين بشكل رئيسي. الأولى تعزيز فرص الحديث عن انعدام وجود الدولة. والثانية انتظار تطورات خارجية، إقليمية ودولية، والأكثر رجحاناً في هذه التطورات سلبياتها المنتظرة.
وهكذا، بدلاً من أن ينخرط طرفا الثنائية السياسية الشيعية في البحث مع الآخرين عن توفير شبكة أمان للبنان تقيه من التطورات واحتمالاتها السلبية، ينغمسان في "سياسة" فتح الوضع على الفوضى، وكشفه على السلبيات، علماً أنّ كلّ المقدّمات تفيد أنّ التطورات التي ينتظران ليست في صالحهما.. ولا في صالح البلد.
وبعد كلّ ذلك يحدّثان عن التدويل ويتّهمان الأكثرية بالسعي إليه. فعندما يكون المجلس مغلقاً، وعندما يضعان شروطاً استبدادية على الحلّ الداخلي، مَن غيرهما يستدرج التدويل؟
"يساوون كلّ لبنان" (!)
أمس، في مقابلة مع صحيفة "الشرق الأوسط"، قال المعاون السياسي للأمين العام لحزب الله حسين خليل إنّ إقرار المحكمة الدولية في مجلس الأمن يعني "ضرب رأي فئة كبيرة بعرض الحائط". وأضاف "إن شاء الله نثبت لهم أنّ هؤلاء يساوون كلّ لبنان" (!).
كيف يستقيم هذا "المنطق" الذي يتحدّث في الوقت نفسه عن فئة "كبيرة" وعن أنّها "تساوي كلّ لبنان"؟. وكيف يكون إقرار المحكمة في الأمم المتحدة في حال تعذّر إقرارها في مجلس النواب ضرباً بعرض الحائط أصلاً فيما يعبّر "حزب الله" بوضوح عن اعتراضات على قيام المحكمة مقرونة بدفاع عن الجنرالات الأربعة بوصفهم "معتقلين سياسيين"؟.
طبعاً انّ الفئة التي يمثّلها "حزب الله" و"أمل"، أي الشيعة، هي فئة كبيرة من دون شكّ، لكن أن تكون تساوي كلّ اللبنانيين فذلك ما ليس "طبيعياً"، خاصة عندما يستخدم الطرفان مقولة "الديموقراطية التوافقيّة" على مزاجهما. فعلى أيّ أساس يمكن التفاهم معهما إذاً؟.