العنف والإرهاب: بديل جلد الذات
تجدد الحوار حول الإرهاب والعنف في أعقاب التفجيرات التي حدثت في الجزائر والمغرب، وترددت أصداؤها قوية في أرجاء العالم العربي، وكان ـ ولا يزال ـ تفسير ما جرى أحد أهم محاور ذلك الحوار، وفي عدد الأحد الماضي (15/4) من «الشرق الأوسط» نموذجان للتفسير، أحدهما من الأستاذ عبد الرحمن الراشد، وكانت خلاصته أنه لا أمل ولا فائدة، ففي بلادنا متطرفون دينيون يتعجلون الذهاب الى الجنة، ولا تهمهم الحياة الدنيا ويريدون أن يأخذوا الى القبر أكبر عدد ممكن من الناس، وهم مستعدون للذهاب الى آخر الدنيا لمقاتلة الكفار، الذين يبلغ عددهم في نظرهم خمسة مليارات إنسان. النموذج الثاني تمثل فيما كتبه الدكتور تركي الحمد، وبدا أكثر عمقا، من حيث أنه أرجع الظاهرة الى ثلاثة أسباب هي: عنف الدولة في المنطقة، وشيوع فكرة المؤامرة بين جماهيرها، الأمر الذي يستفزها ويعبئها ضد العالم، أما السبب الثالث فهو شيوع ثقافة ساكنة أحيطت بقداسة، حولتها الى «تابوه» لا يقبل المساس أو التغيير، الأمر الذي جعلها متصادمة باستمرار مع العالم الخارجي.
الفرق بين النموذجين هو الفرق بين التبسيط والتركيب، ففي حين أن الأول يرى أننا بين خيارين: إما أن نستأصل أولئك الإرهابيين أو نتركهم يحاربون العالم الى الأبد، أما الثاني فهو يقول لنا: تعالوا نفهم القصة ونتحرى أسبابها، علنا نتمكن من معالجة الأسباب فنحصل على نتائج أفضل.
عندي بعض ملاحظات على النموذجين، أبدأها بتسجيل عدة نقاط أرجو أن نتفق عليها:
إن العنف وما استصحبه من إرهاب ظاهرة طارئة في العالم العربي، حيث لا يكاد يتجاوز عمرها ربع قرن، الأمر الذي يدعونا الى ضرورة التفكير في «المتغير» الذي طرأ خلال تلك الفترة، حتى أوصل الأمور الى ما وصلت إليه، بالتالي فالادعاء بأن العنف يمثل جزءا أصيلا من ثقافة المجتمع، لا أساس موضوعيا أو تاريخيا له.
إن العنف شأن غيره من التحولات الاجتماعية المهمة يتعذر تحميله على سبب واحد، وإنما تتدخل في إنتاجه عوامل متعددة اجتماعية وسياسية واقتصادية، ليس ذلك فحسب، وإنما هذه الأسباب تختلف في أولوياتها وفي درجة إسهامها من بلد الى آخر، فأسباب العنف في الجزائر تختلف عنها في العراق مثلا، كما أن الطبيعة البشرية تختلف في البلدين. وإذا كان الفقر سببا لإثارة سخطهم وغضبهم في بلد، فقد يكون القمع السياسي هو السبب في بلد آخر، وقد يكون شيوع الفساد أو التحلل الأخلاقي أو التغريب من الأسباب المؤدية الى ذلك السخط.
والأمر كذلك، فإن التعميم في إطلاق اسباب العنف قد لا يكون دقيقا، وبسبب الخطأ فيه فانه قد يرتب نتائج خاطئة في التحليل، ولذلك فإن الحوار إذا أريد له أن يتجنب ذلك المحظور، فما كان مفيدا أن ينصب إما على كل حالة على حدة، وإما أن يدعو الى تحري طبيعة الأوضاع الاجتماعية والسياسية في كل بلد.
لا يفوتنا في هذا الصدد أن نلاحظ أن أغلب العمليات الإرهابية التي تمت إنما وجهت إما الى مصالح دول أجنبية بذاتها، أو ضد مؤسسات السلطة. وهذا الخيط ـ إذا صح ـ فإنه ربما أضاء لنا طريقا نستطيع أن نمضي فيه، لكي نحاول أن نجيب عن السؤال: ما الذي أدى الى سخط المجموعات الإرهابية ضد هذين الهدفين بوجه أخص.
إننا ونحن نفكر في المسألة ينبغي أن ندرك جيدا أن العالم العربي له خصوصية لا تتوافر في أي مكان آخر بالعالم تتمثل في اجتماع عاملين مهمين هما النفط وإسرائيل، فضلا عن موقعه الاستراتيجي بين الشرق والغرب بطبيعة الحال، صحيح أن النفط موجود في مناطق أخرى من العالم، إلا أن وجود إسرائيل لا مثيل له في مكان آخر بالعالم. وقبل إسرائيل وقبل النفط (في عام 1916) كانت بريطانيا وفرنسا قد اقتسمتا النفوذ في العالم العربي في مؤتمر سري ذاع أمره في وقت لاحق، حينما أعلنت اتفاقية سايكس بيكو. هذه الخلفية ينبغي أن تظل حاضرة في الأذهان دائما، لأنها تعني أن الساسة الغربيين لديهم أسباب قوية لبسط نفوذهم قدر الإمكان في المنطقة العربية تحت دعوى «حماية المصالح»، التي تعاظمت بمدى الوقت، وهي الحماية التي غدت جزءا من استراتيجيات الدول الكبرى في المنطقة، الأمر الذي يعني أن الكلام عن مخططات غربية ـ أو مؤامرة إذا استخدمنا المصطلح الشائع ـ له أصله الذي يتعذر إنكاره. وإن كان من المهم للغاية أن تعطى تلك المخططات حجمها الطبيعي، وألا يبالغ فيها بحيث تغدو مهربا نلجأ إليه، لكي نتجنب الإعتراف بأخطائنا.
إنني أحذر من الإفراط في جلد الذات، واتهام شعوبنا وثقافتنا بالمسؤولية عما نعانيه من تطرف وإرهاب. ولا أعرف لماذا هذه المسارعة الى محاولة إقناع أنفسنا وإقناع الآخر بأن ثمة شيئا غلطا في «جيناتنا» أو في مرجعيتنا الثقافية، ولماذا لا نركز على الموضوع وليس الذات، أعني أن نتوجه بالبحث في طبيعة الظروف التي تغيرت، وأنبتت في بعض حقولنا أشواكا باتت تدمي حياتنا وتنغصها.
إن ما يحتاج الى بحث جاد حقا هو ما الذي أصاب تربتنا حتى أصبح هذا هو حالها؟ لا شيء تغير في جيناتنا، ولا شيء تغير في مرجعياتنا الثقافية، ولكن الذي تغير هو الظروف التي نعيش في ظلها، حتى إذا سلمنا بأن هناك أناسا يريدون الذهاب الى الجنة، وأن يأخذوا معهم الى القبر أكبر عدد من البشر، فمن واجبنا أن نتساءل: من أين جاء هؤلاء الناس؟ ولماذا ظهروا في هذا الزمان ولم يظهروا في أزمنة أخرى، حين كانت التحديات أكبر، أعني حين كانت المنطقة العربية كلها تحت الاحتلال، من بلاد الشام الى بلاد المغرب؟
إننا نمارس الكسل العقلي إذا اكتفينا بأن نحاكم البشر وحدهم، ثم ننصرف متصورين أننا «فهمنا القصة»، لأن التحدي الحقيقي يتمثل في تحري الملابسات والخلفيات التي أنبتت تلك الشريحة من البشر، لأننا إذا مضينا وراء ذلك التبسيط، وقمنا باستئصال هذه الفئة من الناس ـ على فرض أن ذلك ممكن نظريا ـ فإن التربة التي أنبتتهم ستنتج لنا جيلا آخر ربما يكون أشد قسوة وغلظة، على الأقل لأنهم سيكونون آتين من تربة جرى ريها بالدم.
(عند علماء الاجتماع فإن ثمة ظروفا إيجابية تستخرج من الناس أفضل ما فيهم، كما أن هناك ظروفا سلبية تستخرج من الناس أنفسهم أسوأ ما فيهم، لذلك فإن أي تحليل رشيد ينبغي أن يوجه أكبر قدر من الاهتمام لتلك الظروف، سواء كانت داخلية أو خارجية.
في الوقت ذاته، فإن لدى الأمريكيين مقولة مضيئة تسلط الضوء على القضية التي نحن بصددها، خلاصتها أنه إذا تكرر رسوب تلاميذ أحد الفصول، فينبغي أن يخضع المدرس للفحص والمساءلة، لأن ذلك الرسوب يعني أنه فشل في أن يستخرج من الطلاب أفضل ما فيهم.
ليس عندي أي تبرير أو دفاع عن سلوك الشبان الذين ارتكبوا العمليات الإرهابية التي وقعت في الجزائر العاصمة والدار البيضاء، فما تورطوا فيه جرائم تستحق عقوبة مشددة، لكن الى جانب ذلك أدعو الباحثين على الأقل الى النظر في تفسير تكرار «رسوب» هؤلاء الشبان، والتفكير في تحليل الملابسات التي أفضت بهم الى تلك النتيجة البائسة.
لا يفوتني في هذا الصدد أن أنبه الى أن معالجة ظواهر التطرف والإرهاب في وسائل الإعلام تتسم في أغلبها بذلك المنهج الذي يسارع الى المحاكمة. وتلك المهمة ينهض بها رجال الأمن وسلطات الضبطية القضائية، في حين ينتظر من وسائل الإعلام ومؤسسات البحث العلمي أن تلجأ الى التحليل وتحري الجذور والخلفيات، لأن ذلك هو المنهج الذي ينير الطريق أمام وضع اليد على الأسباب، تمهيدا لمعالجة النتائج.
بسبب من ذلك، فإنني أذهب الى أن المنهج الذي اتبعه الدكتور تركي الحمد هو الأقرب الى الموضوعية، وأيا كانت تحفظاتنا على الأسباب التي أوردها، ومنها ما هو صحيح مثل إشارته الى عنف الدولة، وكون العنف يولد العنف، إلا أنه يحسب له أنه اجتهد في رصد الأسباب التي أنتجت الظاهرة، وهو اجتهاد يفتح الباب لمناقشة الموضوع من زاوية الظروف الاجتماعية والسياسية الكامنة وراء حوادث العنف المتكررة.
ثمة بعد آخر في المسألة لم ينل حظه من الاهتمام في السجال الراهن، هو أن الكلام كله مركز حول مواجهة التطرف والإرهاب، وهو حوار مفيد لا ريب طالما التزم بالموضوعية في التناول، لكني أحسب أنه لا يزال من الأهمية بمكان أن نفكر في إفساح المجال للاعتدال، الى جانب السعي لمكافحة التطرف. وعلماؤنا يعبرون عن ذلك المنهج بقولهم إنك إذا أردت إغلاق أبواب الحرام، فإن أنجح الوسائل لذلك هي فتح الأبواب على مصارعها أمام الحلال. ومن أسف أن تلك الأبواب الأخيرة ليست مفتوحة بما فيه الكفاية في أغلب أقطار العالم العربي ـ وتلك قصة أخرى على أي حال.