الخليج بين السياسة والحرب
اللواء الركن
محمد بن فيصل أبوساق
تركز كثير من الأنظار وكثير من الجهود نحو أحداث السياسة والحرب في منطقة الخليج العربي خلال العقود القليلة الماضية. وقد تمكنت القوى السياسية الفاعلة أن تقود منطقة الخليج بأفضل ما يمكن لتحقق نتائج إيجابية ملموسة رغم التحديات المتواصلة والمؤثرة. وحتى تصبح هذه المنطقة قادرة على استثمار عائداتها نحو مزيد من التنمية والبناء في ظل استقرار مستدام فإن ذلك يتطلب مواقف إيجابية متكاملة كبرى في ظل تحديات وتبعات الأزمات. ففي منطقة الخليج مصادر قوة متعددة يمكن أن تحقق قوة مضاعفة حين يحسن تكاملها لصالح المنطقة في مواجهة المواقف والتحديات المسيطرة على ساحة الأحداث.
وليس هنالك دليل أبلغ إيجابية في الشأن السياسي وفي المواقف الاستراتيجية من مواقف القيادة السعودية لإدارة الكثير من الأزمات وتجنيب هذه المنطقة الكثير من تبعاتها. ورغم كل المساعي الخيرة والجهود الناجحة إلا أن الخليج قد شهد عدة أزمات متتالية خلال العقود القليلة الماضية. وكانت تلك الأزمات قد ساهمت في تراكم التبعات المادية والمعنوية التي تركت آثارا بالغة في شؤون المنطقة وبيئتها السياسية والاجتماعية والطبيعية.
وقد تحولت الأزمات إلى عدد من الحروب والمواجهات المسلحة التي تنوعت مستوياتها من العمليات منخفضة الشدة إلى فائقة الشدة وما بينهما؛ وما زالت تبعاتها تكاد تعصف بالمنطقة في أية لحظة.
وتعد العلاقة بين السياسة والحرب أبرز الصور المتكررة على مسرح أحداث الخليج. ورغم تعدد التعاريف والفلسفات في العلاقة بين السياسية والحرب إلا أن الجنرال البروسي كارل فون كلاوزفيز كان قد وضع تعريفاً اقرب دقة لواقع هذه العلاقة في أزمات الخليج. ومن المؤسف أن سجل أزمات الخليج قد أثبت صحة التعريف في حالات متكررة. فقد عرفها بقولة: (ليست الحرب إلا استمرار للسياسة بوسائل أخرى).
وهنالك تعريفات أخرى للحرب قد تختلف نسبياً إلا أن هذا التعريف ينطبق بشكل دقيق على حروب الخليج وهو يحمل وجها آخرا للسياسة والحرب. فتعريف الحرب المشار إليه يتضمن أن بالإمكان أن يستمر الموقف المتأزم بين طرفي الصراع في مرحلته السياسية للوصول إلى مخارج مناسبة؛ وليس بالضرورة أن يكون الصراع المسلح هو المخرج الوحيد للأزمات.
وقد كانت الحرب العراقية الإيرانية بدءا من عام 1980م هي أول حرب طويلة استنزفت الكثير من القوى في منطقة الخليج. ثم تلى ذلك غزو جيوش صدام حسين لدولة الكويت واحتلالها وتغيير واقعها في أغسطس1990م. وفي عام1991م كانت الحرب (الحتمية) لتحرير الكويت حين نفدت كل المحاولات لحل الأزمة عبر الوسائل السياسية والخيارات الأخرى غير الحرب. ولا تزال المنطقة تشهد اليوم تفاقما في الأوضاع السياسية من تبعات الغزو والاحتلال الأمريكي للعراق في بداية عام 2003م.
ولو نظرنا إلى واقع الصراع في منطقة الخليج لتأكد لنا أنها مواجهات سياسية قادها أحد أو بعض الأطراف لتخرج من مسارها السياسي إلى مواجهات مسلحة لتحقيق الأهداف التي عجزت عنها مرحلة الصراع السياسي. وهكذا تحولت كل أزمة في الخليج من مرحلة الخيارات والمواجهات السياسية إلى حملة حربية مسلحة شاملة استنزفت الكثير من المصادر وأنهكت الكثير من القوى وخلفت تبعات اقتصادية وسياسية واجتماعية وفكرية وبيئية لا يمكن تجاوزها إلا بزمن طويل وجهود كبيرة. وعن هذا المفهوم بين السياسة والحرب يتبين لنا انه من الممكن مع شيء من الصبر والحلم والحكمة في أطراف الصراع أن تتضح لهم مخاطر انعدام الصبر ومخاطر شن الحرب أو التلويح بشنها لتحقيق أهداف سياسية قد تكون أقل ثمنا من مجمل قيمة الحرب وخسائرها.
وبالنظر إلى المواجهة الراهنة بين الولايات المتحدة ومعها الدول الغربية من جهة وإيران من جهة أخرى حول المساعي الإيرانية لامتلاك الطاقة النووية، فإن منطقة الخليج تقترب من نهاية مرحلة الصراع السياسي المتأزم حاليا. وانطلاقاً من تجارب أزمات الخليج السابقة مقارنة بواقع الأزمة الراهنة فإن الخشية أن تتحول الأزمة إلى صراع مسلح حيث تصاعد الحملات النفسية والإعلامية التمهيدية متوازية مع حالة من الحشد العسكري للقوة في منطقة الخليج.
ومن واقع تجارب هذه المنطقة مع تبعات مواجهاتها المسلحة أن كل حرب تخلف من المخاطر والتدمير ما يفوق الحرب السابقة في تصاعد طردي. وبكل مقاييس المواجهات المسلحة السابقة في منطقة الخليج فإن المواجهة الراهنة التي نخشى حدوثها لن تكون استثناء في تبعاتها المؤلمة. فلم تنشأ الحروب السابقة بشكل مفاجئ بل كانت مرحلة ثانية من حالة الصراع الذي كان سياسيا في مرحلته الأولى. ثم فشلت أطراف الأزمة ولم تسيطر الحكمة وبعد النظر على المواقف مرة بعد أخرى. وأيضا لم تتمكن أطراف الحروب السابقة من استيعاب الدروس المستفادة للنتائج المؤلمة للحرب التي لم تضيف مكاسب حقيقية توازي قيمة الحرب المعنوية والأخلاقية وتكاليفها المادية لأطراف الحرب.
وكما حدث في الحروب السابقة فإن أحد طرفي الصراع يشن الحرب لإملاء إرادته وتحقيق أهدافه عبر تدمير مراكز الثقل لدى الطرف الآخر آملا في تحقيق نصر بلا ثمن. ثم تنشأ حالة الصراع المسلح بين الطرفين في سباق محموم نحو إكراه الطرف الآخر وإنهاكه واستنزاف قواه المادية والسياسية والمعنوية ليصل إلى نقاط الذروة في مراكز ثقله لتحدث الهزيمة أو الاستسلام أو القبول بالأمر الواقع.
والتساؤل المحير دائماً في أزمات الخليج هو عن انعدام الحكمة في الطرف المعتدي أو الطرف الذي يستبق الزمن ويسابق الأحداث ويقوم بشن الحرب أو بتقديم مبررات حدوثها. ويحق لأي مراقب لهذه الأزمات المتتابعة أن يثير تساؤلات مستمرة عن أسباب هذا السباق لتحويل الموقف السياسي إلى موقف حربي، وما هي المغريات والحوافز لعرض القوى والمناورات الحية وإطلاق الصواريخ؟
وما يثير دهشة المتابع لتحولات الأزمات هو تجنب بعض الخيارات السياسية الأكثر سلمية تحت مبررات الكرامة السياسية وتفضيل الخسائر المادية الجسيمة والقتل والتدمير على التنازلات السلمية أو حتى التوافق المنطقي لإبعاد شبح الحرب التي بطبيعتها لا تجلب كرامة سياسية أو نصرا بلا ثمن فادح.
وفي ظل الأزمات المتتالية في منطقة الخليج العربي يبقى الخط الدبلوماسي السعودي متميزا في إدارة الأزمات الكبرى والخروج دائماً بمكاسب سياسية تحقق أكبر مما تحققه المواجهات الحربية لأطراف الحرب الذين يفشلون في إدارتهم للأزمات في مراحلها السياسية. ويكفي أن يتابع المهتمون بشؤون أزمات الخليج ما تقوم به الحكومة السعودية بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز من تحركات دبلوماسية وحالة نشطة لصالح منطقة الخليج وجوارها الإقليمي.
وكانت القمة العربية بالرياض في مارس 2007م وما صاحبها من تحركات دبلوماسية قد تركت انطباعاً كريماً وبعدا إقليمياً مبشرا في شأن الاهتمام السعودي بإضفاء حالة السلم والعدالة والاستقرار على منطقة الخليج وإقليم الشرق الأوسط. فالقيادة السعودية قد برهنت أنها الأقدر على تجنيب بلادها وجوارها الكثير من الأزمات أو حصرها في حدود قابلة للسيطرة.
وفي نظري أن الأطراف المعنية بالأزمات بشكل مباشر أو غير مباشر لو تمكنوا من القيام بدراسة مستقبلية للأزمة - أي أزمة - من حيث مجمل المكاسب والخسائر المتوقعة حقيقياً أو ضمنياً فسوف يكتشفون خيارات أخرى سلمية وأكثر إيجابية من خيار الحرب. فغالباً ما يكون الجميع خاسرين في المواجهات المسلحة حيث يشترك في الخسارة الطرف المنتصر. ومرة أخرى ليست الحرب إلا استمرارا للسياسة بوسائل أخرى.
أدعو الله تعالى أن يوفق خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين وحكومتهم في مسعاهم المعهود لإشاعة السلام ومنع الحرب.